كما فعلت الصناعات المتقدمة في تحطيم دفاعات المدن، و الاتصالات الرقمية في العقد الذي نعيشه من تحطيم حصار الفكر، ستكون الانتاجية اللامركزية اداة لاستبدال التخطيط المركزي للسوق و الفكر بخلق ثقافة استثمارية جديدة.

علم الاقتصاد الكلي تشكل نتاج الطفرة في الإنتاج و التي ولدتها الثورة الصناعية بعد أن كانت غالب الاقتصادات محصورة بمفاهيم الاقتصاد الجزئي. بالرغم من حداثة الاقتصاد الكلي إلا أن الطفرة التكنولوجية سارعت بتطوره وغيرت مفاهيم استقلالية النظام النقدي المحلي بدمجها ضمن منظومة نقدية عالمية واحدة. فالاقتصاد الحديث لم يقم إلا على طفرات إنتاجية متتابعة، كالطفرة الصناعية في الستينيات، وطفرة الاتصالات في الثمانينات، والثورة الرقمية في التسعينيات، والطفرة اللامركزية -بلوكتشين- في الألفية الجديدة. فبعد أن كانت السلطة النقدية محكومة محتكرة في كمية الذهب وكمية الطلب عليه، تغلبت الالة والعقل البشري في انتاجيتها على كل محتكر. فمحدودية الذهب تعجز عن تغطية الاستثمارات التوسعية في الاقتصاد، مما يقلص السيولة الموجودة في الاقتصاد لارتباطها بالذهب أنا ذاك و بسبب احتكار ملاك الذهب متى ما رَأَّوْا حاجة الناس إليها. فيضاعفوا الأسعار في الاقتصاد أضعافا حتى تضيع الفرص التطويرية بعد القضاء على كل منتج بافلاسه وكل عقل مبدع بإحباطه بسبب شح السيولة. الا ان سلطة الذهب على الاقتصاد زالت بعد تعاظم إنتاجية الالة وتطور السياسة النقدية العالمية. فالحاجة إلى ما تنتجه الآلة و العوائد الربحية التي تولده فاقت حاجة الناس الى اكتناز الذهب الغير منتج في أصله. و لخلق اقتصاد قائم على عملة غير محتكرة و لتجنب معضلة الذهب، وضع الانسان حجر الأساس للنظام النقدي الحديث في ١٩٧١هـ بعد فصل الدولار عن الذهب ليكون عملة غير تابعة لسلعة مادية له قيمة غطاءها إنتاج الاقتصاد من سلع وخدمات. و ليصبح الدولار اول عملة بسيادة مطلقة قائم بنفسه. و هنا كان مولد عملة دولية حاكمة للاقتصاد الكلي بسيولة لا محدودة والبنك المركزي المتحكم بها بتسجيل ما يعادلها من انتاج الاقتصاد دون بخس او تطفيف. وهنا بدأ التغيير الملحوظ في فكر الاستثمار طويل الأمد.

خلال عدة فترات تطور فكر الاستثمار طويل الأمد ليمر بعدة تغيرات ليتناسب مع السياسة النقدية المتطورة. فبداية كان الاستثمار طويل الأمد يعني الاستثمار بحفظ قيمة الزمن في مال الفرد -خلال فترة زمنية طويلة- عن طريق تدويره في أصول ذات قيمة ثابتة نسبيا. وخلال بداية العصر الحديث كان الاستثمار في السلع والخدمات الاساسية اهم طرق الاستثمار طويل الأمد. فتجد من يجد ما يزيد في ماله يستثمر في سلع تحفظ قيمته ، كالذهب مثلا، او خدمات اساسية كالطاقة تنمو فيها ثروته. أيضا الاستثمار في السندات كان بمثابة الاستثمار في الاقتصاد ككل و  بامن عالي، مخاطرة لا تذكر، و عائد كافي. ومع تطور الخدمات المالية و التقنية أصبح من السهل مشاركة ليس فقط الخدمات الاساسية بال أغلب جوانب الحياة بالاستثمار فيها. فأصبح للفرد ليس فقط الاستثمار في نمو اليوم بل أيضا في أفكار المستقبل. هذا جعل من فكرة الاستثمار في الشركات عن طريق امتلاك أسهم، يتشارك فيه المستثمر والمالك المخاطرة و الربح، فكرة تجلب عائد ونمو الشركات و المستثمرين و تلبي حاجة الاقتصاد للتوسع والنمو. من هذا المنطلق بدأت فكرة الاكتتاب العام (Public Listening). هذا عزز فكرة أن مشاركة المجتمع معك في المخاطرة و الربح يعزز فرص بقائك في وقت الأزمات و نموك في وقت الطفرات. فتجد شركة مثل كوكولا أفضل مثال للاستثمار بفكر صحيح و استراتيجية فعالة. فالاستثمار في ذلك الوقت في الـIPO هو أحد السبل الجديدة للاستثمار في نمو الاقتصاد لكن المخاطرة فيها عالية لطبيعة البيئة الاستثمارية الجديدة وفقدان معايير التقييم. فشركة Coca-Cola كان سعر طرحها العام الأولي (IPO) في بورصة نيويورك (NYSE) ، مقابل 40 دولارًا للسهم الواحد. و في نهاية عام 2015 ، كانت حصة واحدة من أسهم الشركة في عام 1919 (مع إعادة استثمار أرباح الأسهم) تساوي 12،748،802 دولار ، بمعدل نمو سنوي قدره 14.11٪. استمرت فعالية هذا النوع من الاستثمار مع انخفاض الفائدة على السندات الامريكية مما جعل السيولة تطارد عوائد سنوية أكبر تغطي قيمة التضخم. مما جعل من الشركات تبحث عن السيولة والتوسع عن طريق الـIPO بالرغم من وصول نسبة فشل هذه الشركات إلى ٨١٪. هذا النوع من التغير في طريقة الاستثمار خلق أدوات جديدة مثل الـVC و الـSPACs. مما سهل انتقال السيولة من محافظ الافراد لتكون في صناديق استثمار والتي هي خزان السيولة في الاقتصاد. النقلة التالية التي حدثت في فكر الاستثمار طويل الأجل عندما ظهرت بتكوين. فضلا عن كونك تستطيع من الانتفاع من ارتفاع قيمة الأصل بإيقاف سيولتك في هذه الشبكة (الشركة) ، تستطيع أن تحصل وتنتفع على هذا الأصل بكونك عضو فعال في هذا أمان المجتمع. فعن طريق التعدين، تأمينك للشركة ببذل طاقة وجهد حوسبي يمكنك من الحصول على عائد بدون بذل أي سيولة. هذا المبدأ هو أساس عمل ايثيريوم و التي جاءت بفكر ان استثمارك في مجتمعك يبدأ باستثمار جهدك و وقتك قبل سيولتك. ايثيريوم كانت النقلة الأخرى التي جمعت بين طريقة الإدراج العام و المنفعة لمجتمع البروتوكول (الشركة). هذه الطريقة كانت تحول من مفهوم الـIPO التقليدي إلى مفهوم الـ ICO. فالـICO هي فكرة الاستثمار بالبروتوكول عن طريق استبدال أصل رقمي -مثل بتكوين- بعملة البروتوكول نفسه. فأنت توقف سيولتك في البروتوكول عن طريق امتلاك أصل هذا المجتمع، و في نفس الوقت تجعل من تلك السيولة وقود لنمو هذا المجتمع. فايثيريوم بدأت بأدراج عام عن طريق الـICO باستقطاب سيولة بتكوين لكن ايضا جعلت من المجتمع ينتفع باستثمار ليس فقط سيولتهم بل جهدهم. هذه خلق ديناميكية جديدة لمجتمع ينمو بالاستثمار بنفسه أشبه بما حدث للدولار بعدما انفصل عن الذهب. و بسبب السياسة المالية الديناميكية -التي يتحكم فيها جميع ملاك العملة- والتي تسمح في استثمار تضخم المعروض في نمو البروتوكول، أصبح البروتوكول بعملة ذات سيادة واستقلالية. هذا اسس لاقتصاد قائم بنفسه و بيئة آمنة لنمو مجتمعات -بروتوكولات- بتكلفة لا تذكر. في فكر الاستثمار طويل الأمد، هذه كان النقلة الاخيرة و التي سوف نعيشها في السنوات القادمة. فلا يمنع أي مجتمع من التشكل إلا فعالية الفكرة و مقدار الوقت والجهد الذي يرغب فيها أعضاء هذا المجتمع ببذله. هذا خلق فكرة جديدة استبدلت فكر الـICO بفكرة الـ Fair launch. فالهدف الأساسي من النقلة الجديدة هو توزيع غالبية عملة البروتوكول من خلال وضع بعض المعايير الموضوعية بخلاف البيع المباشر او عن طريق الـICO. على سبيل المثال، سوف تحصل على نصيب من أصل البروتوكول -العملة- لكونك مستخدم نشط في المجتمع -البروتوكول-. و ايضا هذه الفكر يعزز مبدأ أن الاستثمار في مستقبل المجتمع و التأكد من أن كل شخص لديه وصول متساوٍ إلى هذا التوزيع حتى لو انضم في وقت متأخر. يمكن توضيح الفرق بين الشركة و البروتوكول من خلال افتراض أن هناك بروتوكول أوبر -بدل شركة- والأسهم مملوكة لسائقي وركابي البروتوكول منذ اليوم الأول. يُمكّن “الإطلاق العادل” المؤسسين من الاستفادة من السيولة و التقنية الموجودة في البروتوكولات الاخرى في عملية التوزيع وبناء مجتمعات تعاونية طويلة الأمد ومشاركة عالية. هذا عزز من فكر تعاون الشركات فلا يمكن حجب المنافسة أو احتكار السيولة فالتكلفة التشغيلية قليلة و السيولة لامركزية عالمية. أصبح مصطلح الإطلاق العادل شائعا بعد أن أطلق بروتوكول yEarn عملته بدون تخصيص حصص لـ صناديق استثمارية، أو ICO، أو ما قبل للتعدين لتأمين البروتوكول -فأمان شبكة ايثيريوم كافي-. فكانت سياسة التوزيع مبنية لتعزيز نمو مجتمع البروتوكول- يضم المستثمرين و المستخدمين- عن طريق جذب السيولة بتوفير خيار المشاركة في أساس عمل البروتوكول من خلال رهن وإقراض السيولة -Staking- و مكافأتهم بإعطائهم عملة البروتوكول. في جوهره، يمكّن الإطلاق العادل المؤسسين من الوصول بسرعة إلى السوق، مع تخطي طريقة جمع الأموال التقليدية وتحسين توزيع العملة. بالنسبة للمستخدمين، تتيح عمليات  الإطلاق العادلة لأي شخص المشاركة، مما يخلق بيئة محفزة لمجتمعات الحكم الذاتي. يبقى أن الحكم على سياسة توزيع العملة للمجتمع و عملها داخل البروتوكول أمر يحتاج الى اختبار مدى فعالية النماذج القائمة و اي منها يعزز بقاء و انتاجية المجتمع. فاليوم لدينا طريقة جديدة لتقديم بروتوكولات -افكار-  جديدة إلى السوق، والتي يريدها كلا جانبي السوق -المؤسسون والمستخدمون- و يمكن دعمها من المستثمرين بسهولة و بمخاطرة محسوبة. فكما كانت بتكوين أول إطلاق عادل لعملة لامركزية في التاريخ، اليوم شبكة أيثيريوم توفر الخيار لأي بروتوكول ، أو فكرة، الأمان الكافي ليتشكل وينمو بتكلفة لا تذكر بالإضافة لخيار التوزيع العادل لأصل البروتوكول ليتشارك المجتمع الانتاجية و المنفعة. فكما فعلت الصناعات المتقدمة في تحطيم دفاعات المدن، و الاتصالات الرقمية في العقد الذي نعيشه في تحطيم حصار الفكر، ستكون الانتاجية اللامركزية اداة لاستبدال التخطيط المركزي للسوق و الفكر بخلق ثقافة استثمارية جديدة.