هذا القرن سيكون قفزة للفكر الرأسمالي فلا اصول تحد انتاجيتنا ونمو مجتمعاتنا سوى طاقتنا و ما نبذله من وقت في رقيّنا.

عانى فكر الاقتصاد الرأسمالي من محدودية الذهب  منذ القرن السادس عشر. وتأسس فكر الرأسمالية لفتح الطريق لأن يستغل كل إنسان قدراته و وقته في زيادة ثروته أو تحقيق مبتغاه من هذه الحياة. فتشكلت القوانين اللازمة التي تساعد على حفظ حرية الاقتصاد و التي تساعد الفرد  والمجتمع تبعاً للوصول إلى ما يرجو بمناخ آمن عادل. إلا أن أدوات الاقتصاد الرأسمالي تطورت بشكل كبير في القرنين الماضيين إلا أن محدودية السيولة في الاقتصاد أكبر عائق لهذا الفكر. فكل سيولة الاقتصادات في العالم كانت مقترنة بكمية المعادن في ذلك الاقتصاد خصوصا الذهب. فالانتاجية كانت محدودة بسيولة الذهب لا بما يبذله الفرد أو يحتاجه.، مما أخل بالتوازن الاقتصادي و جعل من احتكار الذهب- وهو ليس بُِمنْتِج- استثماراً في معاكست الانتاجية. فكان من يبيع مال ه-الذهب- ليستثمر في نمو إنتاج الاقتصاد، فهو محكوم بسقف سيولة حده جامد وقد يتكدس في يد محتكرين . وهو ما عزز لفكرة الادخار وعدم الاستثمار في نمو الاقتصاد في حال ارتفع المخاطر موجود سقفا لكل دورة اقتصادية لا بإشباع الحاجة الإنتاجية بل بتحكم من محتكرين السيولة -محتكري الذهب. الا ان اتفاقية بريتون وودز في ١٩٤٤ أسست لمفهوم ربط العملة بعملة أخرى تكون مربوطة بالذهب وهو ما أتاح التفاوت في السيولة المغطاة بالذهب. وبحلول عام ١٩٧٣ تم استبدال اتفاق بريتون وودز بحكم الأمر الواقع -سوق حر- إلى نظام تعويم العملات الورقية بالكامل.

ففكر النظام الرأسمالي الذي نعيشه اليوم في معظم العالم يتطور بشكل متسارع وملحوظ منذ بداية هذا القرن. لكن يبقى أن نعرف أصل حركة الاقتصاد الرأسمالي اليوم فهو أساس تشكل وتوجه الفكر. لذلك ديناميكية النظام الرأسمالي مبنية على تقسيم الناس لصنفين من حيث تعاملهم مع المال. والمال وأن تطور مع السنوات ليأخذ اشكال مختلفة فهو اليوم ثروة الفرد من وقت يبذل وأصول تحفظ جهده كالنقد و العقار. فالصنف الأول في التعامل مع ماله، يميل إلى نزعة المخاطرة او من يملك فوائض مالية يمكنه التخلي عنه -استثمارها- لفترة زمنية طويلة أو طول من غالب المجتمع. فهؤلاء يكثرون وينمو انتاجهم في بيئة تشجع على المختلف و المخترع  و فوائض مالية توازن المخاطر في الأصول المختلفة الجديدة تصحبها سياسة ديمقراطية تقدم الأفضل والأجدر والانفع. والصنف الثاني من يميل الى الرتابة والروتين قليل المخاطرة يستثمر ماله في أصول طويلة الأجل معروفة المنفعة قليلة المخاطرة. وهو ما يتركز عليه عمل البنوك في إيجاد حسابات استثمارية ادخارية محسوبة المخاطرة أو الاستثمار في الاقتصاد ككل في السندات الحكومية طويلة الأجل. فالصنف الأول هو من يدفع القفزات الاقتصادية قصيرة الأجل ويخلق نمو لم يكن موجود سابقاً. فمتى ما وجد تلك الإنتاجية طلبا اعلى وحاجة الا وتدفقت سيولة الاقتصاد اليه. والصنف الثاني هو من يساعد على استدامة الاقتصاد وتدفق السيولة للإنتاجية الجديدة بتقليل المخاطر المحسوبة وإيجاد الثقة بالخطط طويلة الأجل. 

 و لجعل حركة الاقتصاد أكثر سلاسة و عدالة في ظل سياسة نقدية لا محدودة، تركزت أبرز أهداف فصل العملات عن الذهب في ثلاث محاور. الأول: إعطاء الحكومة -وهي السلطة المسؤولة عن المجتمع- الأحقية لتزويد نفسها بالسيولة بإصدار سندات من دون وجود غطاء من الذهب لدى البنك المركزي. بدلا من فرض ضرائب أو خفض دعم والتي من شأنها إعاقة الاقتصاد واثارة المجتمع فهذه الزيادة اقتطاع من مال الغني والفقر في ذلك الاقتصاد.  ثانيا: اجبار المدخرين و مكتنز النقد على تشغيله في الاقتصاد بعوائد عادلة من خلال استثماره في أصول تدعم النمو أو استثماره بودائع لدى البنك بفائدة متغيرة بإقراض الحكومات أو الشركات بشراء سنداتها. فمتى خفضت أسعار الفائدة على تلك السندات اضطر أصحابها لضخ أموالهم في أصول أخرى في الاقتصاد للبحث عن عائد أفضل. الثالث: مواكبة السيولة النقدية للنمو في الإنتاج. لذلك ربط الدولار بالذهب كان سبب في كثير من الدورات الانكماشية للنقد لفترات زمنية طويلة بسبب ارتفاع المخاطر في الأصول غير الذهب. فكانزيّ الذهب والأوراق المربوط به كان لهم اليد العليا في احتكار المال بحيث يرفعون السيولة في السوق متى ما أرخصوا الذهب والعكس صحيح. فبعد فصل الذهب وثبات الدولار كعملة احتياطية للعالم، أصبح التحكم بيد البنك المركزي. فالبنك المركزي بامكانه زيادة السيولة في السوق من خلال خفض الفائدة أو شراء السندات الحكومية أو الخاصة والعكس صحيح.

لذلك قُدرت البنوك المركزية و الحكومات على التحكم بالسيولة النقدية أوجدت الحاجة لتأسيس مفاهيم جديدة للاقتصاد النقدي الذي كان محصوراً بالأمس وأصبح لا محدود اليوم بعد فصل الربط بالذهب. فالسوق الذي يحكمه العرض والطلب على الودائع و التمويلات المقدمة من البنوك بسبب ربطها بالذهب، تحررت سيولة النقد فيه وأصبحت مرتبطة بسعر فائدة البنك المركزي. ففي الماضي لو خفضت البنوك المركزية الفائدة لتضخ سيولة للسوق، فهي محصورة في تمويلاتها -بما لديها من ودائع ذهب. أما الآن فالنقد ليس مرتبطا إلا بثقة الناس بالبنك المركزي وادارته للعملة، فهو المتحكم في سيولة السوق ارتفاعاً و انخفاضاً. لذلك فإن إن استقلالية البنك المركزي في تحديد أسعار الفائدة أمر مهم في تحقيق العدالة الاستثمارية وحفظ الاقتصاد من الانهيار أو انعزاله عن العالم. و لأن الاقتصادات مترابطة بشكل كبير اليوم يصبح التحدي أكبر لخلق نمو ذو عائد عادل. فمتى ما هددت استقلالية السياسة النقدية لعملة ما بضغوط سياسية أو تسرب الأموال من الاقتصاد، إلا وانعكست على الاقتصاد سلبا بتضخم فاحش أو كساد اقتصادي تتعطل فيه التنمية. فقد صممت الودائع لسحب أموال الأغنياء من السوق في حالة وفرتها بعطائهم فائدة عليها مقابل عدم استثمارها في السوق. وتخفض الفائدة لتجبر مدخرين الأموال في الودائع على استثمارها في الاقتصاد والتنمية. إلا أن افتراض استقلالية البنك المركزي في توجيه النقد في الاقتصاد أمر يصعب تحقيقه. فحرية تنقل الأموال في الاقتصاد النقدي قد تكون سلاح ذو حدين من أداة لصناعة الطفرات التنموية إلى أداة مسببة للتضخم النقدي أو الكساد. فقد تسرب الأموال و العملة الصعبة من الاقتصاد القائم على عمله مربوطة مما يسبب ضغوطا على احتياطيات البنك المركزي. لكن ضبط تدفق الأموال في الاقتصاد القائم على عمله معوّمه ليس محصورا على وفرة الودائع أو قلها، فعدم الثقة في الاقتصاد وارتفاع مخاطر الاستثمار قد يدفع برؤوس الأموال إلى السندات طويلة الاجل فيرفع من قيمتها لتنخفض الفائدة عليها. فيضطر البنك المركزي الى تخفيض الفائدة لتتناسب مع الفائدة طويلة الأجل ليعوض السيولة المتسربة ويمنع حصول كساد في الاقتصاد. أو يحصل العكس فتزداد السيولة في السوق فيكون الموقد للتضخم الفاحش مما يضطره لرفع الفائدة. فالبنك المركزي اليوم هو من يقود دفة نمو الاقتصاد اليوم بدلا من الذهب بالأمس.  فوقود الرأسمالية اليوم هو ما نوجد من عملات تعكس قيمة ايماننا في منفعة اقتصاد تلك العملات. لذلك هذا القرن سيكون قفزة للفكر الرأسمالي فلا اصول تحد انتاجيتنا ونمو مجتمعاتنا سوى طاقتنا و ما نبذله من وقت في رقيّنا.